ما هو جسيم "هيغز-بوزون"؟

قبل البدء، نرجو التعامل مع البوست التالي بشكل علمي بحت، موضوعي بحت، بدون التطرق لأي منحى آخر، ديني أو عقائدي، فنحن هنا من أجل العلم، شاكرين تفهمكم...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما هو جسيم "هيغز-بوزون"؟

الباحثون السوريون Syrian researchers

أحد أهم الأسئلة و الألغاز التي تخطر على بال الجميع، سواء كانوا مختصين، أو شخاص عاديين، هو سؤال طابعه فلسفي: كيف تشكل الكون؟ كيف تشكلت الذرات؟ ما هو أصل كل شيء؟

و في مغامرات الفيزياء الحديثة، سخر العديد من العلماء نفسهم للبحث عن إجابات لهذه الأسئلة، لعل أشهرهم آينشتاين، الذي توفي وهو يحاول الوصول لـ "النظرية الموحدة الكبرى" و التي يستطيع عبرها تلخيص كل شيء في الفيزياء، إلا أن ضعفه في مجال الفيزياء النووية، و عدم وجود التقنيات اللازمة في ذلك الوقت، حالت دون تحقيقه لحلمه.

اللمحة الأولى كانت مع صراع النظريات الكونية، في أربعينيات القرن الماضي، عندما ظهرت نظريتان تحاولان تفسير نشأة الكون، الأولى هي نظرية الكون المتمدد، و التي ترفض فكرة أنه يوجد نقطة بداية للكون، و الثانية هي الانفجار العظيم، و التي تحدد بدء الكون قبل 13.5 مليار سنة، و في ستينيات القرن الماضي، حسم الجدل لصالح نظرية الانفجار العظيم.

السؤال التالي كان: بعد الانفجار العظيم...كيف تشكلت الجزيئات و ارتبطت مع بعضها؟ كيف تشكلت الذرات و المواد و النجوم؟ خصوصاً أن الاكتشافات المتتالية كانت تظهر وجود جسيمات جديدة ضمن الذرة، فبعد اكتشاف الالكترون، و البروتون، و النترون، اكتشف الكوارك، المشكل الأساسي للبروتونات و النترونات، و بعد الكوارك، اكتشفت أنواع الكواركات، ثم حاملات القوى W,Z و تتالت الاكتشافات حتى وصل العلماء لمرحلة من اليأس، و ظنوا أنهم لن يتمكنوا أبداً من الوصول للإجابة الشافية، حول الجسيم الذي تشكلت منه كل الجسيمات الأخرى، و معرفة كيفية تشكل الذرات و المواد و كل شيء.

في عام 1964، نشر باحث اسكتلندي يدعى بيتر هيغز، مقالاً علمياً شهيراً، و معلناً، باستخدام الرياضيات، عن وجود جسيم أولي، هو الجسيم الأساس الذي تكونت منه كل الجسيمات الأخرى، موضحاً الخصائص التي يجب أن يتمتع بها هذا الجسيم.

بعد بيتر هيغز، أتى الدور على الأمريكي فرانك ويلتشيك، ليضع نظريته الشهيرة "النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات The Standard Model of Particle Physics" و التي نال عليها جائزة نوبل، و تعتبر أكثر نظرية فيزيائية متكاملة، تفسر نشأة الكون، و الأجسام، و كل شيء، رجوعاً للجسيمات الأساسية، و تصنف هذه النظرية الجسيمات إلى أنماط عديدة، و قد تنبأت بوجود العديد من الجسيمات، اكتشفت جميعها، باستثناء جسيم واحد، وهو القطعة المفقودة في اللوحة (على حد تعبير فرانك ويلتشيك)، وهو جسيم هيغز.

بعد أن تم العثور على كل الجسيمات التي تصفها نظرية النموذج المعياري، بدأت واحدة من أشهر المغامرات العلمية بتاريخ العلم، بين قطبين أساسيين، القطب الأول هو مسرع التيفاترون في مختبر فرمي بشيكاغو، الولايات المتحدة الأمريكية، و القطب الثاني، هو صادم الهدرون الأكبر LHC، التابع للمركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN، و فيما كان التيفاترون هو أقوى مسرع جزيئات في العالم، من حيث الطاقة التي يستطيع بلوغها، فام التقنيون في CERN بتعديل المسرع القديم LEP و رفع طاقته بشكل كبير و هائل، ليصبح LHC، وهو ليس فقط أقوى مسرع جزيئات في العالم، بل هو أيضاً أكبر اختراع تقني في تاريخ البشرية، و أكثرها تعقيداً، حيث يمتد على دائرة قطرها 27 كم، بين سويسرا و فرنسا، و على عمق 100 متر تحت سطح الأرض.

وهنا السؤال: لماذا نحن بحاجة لكل هذه الطاقة، و هذه الضخامة للعثور على جسيم صغير جداً أصغر من الذرة بحد ذاتها بآلاف و حتى ملايين المرات؟

الجواب هو نظرية الانفجار العظيم، فحسب النموذج المعياري و تنبؤات بيتر هيغز، لم يكن هناك بعد الانفجار العظيم سوى نوع واحد من الجسيمات، وهو جسيمات هيغز، و بالتالي، للحصول عليها، علينا الوصول لمستويات عالية جداً من الطاقة، شبيهة بتلك التي كانت موجودة عند بدء الكون، من أجل الحصول عليه، و لذلك، يتم تسريع حزم من البروتونات، ضمن المسرع، إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء، و بطاقة عالية جداً، و جعلها تصطدم مع بعضها البعض، و من ثم تحليل نتائج الاصطدام، فبنتجة الصدم، ستخرج مكونات البروتون، من جسيمات أصغر، و كلما كانت طاقة الصدم أكبر، كلما حصلنا على جسيمات أولية أكثر، و طبعاً، الموضوع يتطلب مراقبة دقيقة جداً، و تحكم عالي بالعملية، و حسب تشبيه أحد علماء CERN، فإن الموضوع يشبه البحث عن ذرة غبار واحدة، ضمن كومة قش كبيرة!!

في عام 2012، و تحديداً في 7 تموز، أعلن علماء CERN أنهم عثروا على جسيم، يشابه جسي هيغز بنسبة 99.999%، و هم بحاجة للتأكد من البيانات، و الأرقام التي حصلوا عليها، و فحصها بدقة، قبل الإعلان النهائي.

و منذ يومين، و تحديداً في 13 آذار من العالم الحالي، أعلن أن العلماء قد تمكنوا من العثور على جسيم هيغز، و بشكل شبه نهائي، و هم ينتظرون الآن فقط، التأكد من تطابقه الكامل، مع الجسيم الموصوف بالنموذج المعياري للفيزياء الجسيمية.

السؤال الذي قد يخطر على البال: ما هو سبب هذا الهوس بهذه التجربة؟ و سبب الإصرار على إيجاده؟

الجواب هو كالتالي: إن تمكنا من العثور على الجسيم الذي تشكلت منه كل الجسيمات الأخرى، فسنتمكن من معرفة كيفية تشكل الجسيمات مع بعضها، و بالتالي كيف تشكلت الذرت، ثم المواد، ثم العضويات الحيوية، سنتمكن من معرفة تشكل كل شيء، و هذا يعني أننا سنصبح قادرين على الإجابة على العديد من الألغاز العلمية حول طبيعة المواد، و الجزيئات.

الفكرة الثانية الهامة، هي قضية الكتلة، فاكتساب الجسيمات للكتلة يبقى مجهول، و بحسب نظرية هيغز، فإن جسيم هيغز، بعد الانفجار العظيم يدخل لحقل هو حقل هيغز، و ضمن هذا الحقل، سيكتسب الجسيم طاقة، تتناسب مع سرعته، و هذه الطاقة هي الكتلة التي ستميزه، و بالتالي، فحسب الطاقة التي سيكتسبها هذا الجسيم، سنحصل على جسيم جديد، مختلف عن الأصلي! الآن، بعد العثور على جسيم هيغز، يبقى علينا الحصول على حقل هيغز، وقذف الجسيم إليه، و مراقبة ما سيحصل.

الفكرة الثالثة، و هي الأكثر أهمية، هي التناظر، فكما نعلم، كل جسيم له جسيم مضاد، الالكترون السالب له نظير موجب يدعى بوزيترون، البروتون له نظير سالب هو مضاد البروتون، و هكذا، المشكلة هي، أنه عند التقاء جسيم مع مضاده سيفنيان! أي سيموت كليهما...و هذا يعني أنه إذا كان هناك معدل متساوي و متناظر من الجسيمات و الجسيمات المضادة، فلن يكون هناك حياة، أو كون، أو شيء! إذاً هناك فرق بالكمية بين الجسيمات و الجسيمات المضادة، و وجود الكون، و الحياة، و كل شيء، يعني أن نسبة الجسيمات أكبر بكثير من نسبة الجسيمات المضادة...فكيف تشكل هذا الفرق؟ و كيف تشكلت الجسيمات المضادة بحد ذاتها؟ هذا السؤال، و غيره الكثير، ينتظر أن يجيب عليه جسيم هيغز - الذرة الإلهية.

هذه كانت سلسلة مختصرة، حول جسيم هيغز، و رحلة البحث عنه، و اكتشافه، و فيما يعده البعض، أعظم اكتشاف علمي بالتاريخ، ينظر بعض العلماء، أصحاب النظريات المخالفة في نشوء الكون (مثل الأوتار الفائقة) للموضوع بشكل مشمئز, و لا يزالوا ينتظرون إعلان عن خطأ ما أثناء مرحلة ما، و إلى أن يتم التثبت بشكل حاسم من الجسيم المكتشف، علينا أن ننتظر و نراقب، و نأمل أن يكون العلماء أخيراً، قد وصلوا لمنشأ كل شيء، و المفسر الخفي للعديد من الأسرار...جسيم هيغ بوزون.

آدمن ممتعض

المصادر:
الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون - ستيفن واينبرغ - سلسلة الثقافة المميزة،المعهد العالي للعلوم التطبيقية و التكنولوجيا
البحث عن اللانهاية في أسرار الكون - تقديم ستيفن هوكنغ - منشورات المعهد العالي للعلوم التطبيقية و التكنولوجيا
نظرية الأوتار الفائقة - بول ديفيس و جوليان براون - ترجمة أدهم السمان - سلسلة الثقافة المميزة، المعهد العالي للعلوم التطبيقية و التكنولوجيا، دمشق
وثائقي بعنوان: The hunting of Higgs-Boson - BBC Horizon - Jim Al-Khalili
موسوعة ويكيبديا الانجليزية، الكلمات المفتاحية: LHC - Higgs-Boson - Standard Model