كيف تم إثبات نظرية النسبية العامة؟ - الحلقة الثانية

كيف تم إثبات نظرية النسبية العامة؟ - الحلقة الثانية
في الحلقة الأولى تعرفنا بشكل عام على ما تنص عليه نظرية النسبية في نسختيها الخاصة و العامة، اللتين تفصلهما 10 سنوات من العمل المتواصل من طرف آينشتاين لتعميم المبادئ التي وضع أسسها في ورقته البحثية التي نشرها عام 1905. في هذا الجزء سنبدأ في الحديث عن الاختبارات التي تم العمل عليها لإثبات صحة نظريته تجريبيا.

مدار عطارد
حين نشر آينشتاين نظريته سنة 1915، اقترح ثلاث طرق لاختبار النسبية العامة. و قد استطاع التأكد من صحة نتائج الاختبار الأول بنفسه.
لأكثر من نصف قرن قبل زمن آينشتاين، كان معروفا أن مدار عطارد لم يكن طبيعيا، فالمسار البيضاوي الذي يقطعه الكوكب حول الشمس ينزاح مع كل دورة، تاركا "الحضيض الشمسي" perihelion، و هو أقرب نقطة للكوكب من الشمس، إلى الأمام قليلا على مساره.
و حتى بعد إدخال السحب الجاذبي المطبق من طرف الكواكب الأخرى على عطارد في الحسبان، يبقى هنالك فرق 43 ثانية قوسية كل قرن لا يمكن تفسيرها بالاعتماد على نظرية نيوتن. هذا مقدار ضئيل (3600 ثانية قوسية تساوي قياس 1° لزاوية)، و لكن حين عالج آينشتاين المسألة باستعمال معادلات نظرية النسبية العامة، توصل للعدد 43 ثانية قوسية لكل قرن بشكل دقيق.
هذا التأكيد الأولي لنظريته جعل قلبه يخفق، كما قال لزملائه. "لعدة أيام كنت في حالة إثارة و فرح غير عادية" يتذكر فيما بعد.
انحناء الضوء
الاختبار الثاني الذي اقترحه آينشتاين يتطلب مراقبة دقيقة للشمس، أو بالأحرى لضوء النجوم الذي يمر بالقرب منها. حسب نظرية النسبية العامة فمجالات الجاذبية القوية، مثل مجال الشمس، "تشوه" الزمكان. ضوء النجوم الذي يمر بالقرب من الشمس ينبغي إذن أن يحيد قليلا عن مساره بفعل الزمكان المشوه حول نجمنا، و هذا الانحراف ينبغي أن يكون قابلا للحساب، وفق ما توصل إليه آينشتاين.
في عام 1919، كان من المتوقع أن يحدث كسوف شمسي في نفس الوقت الذي تحجب فيه الشمس العنقود النجمي "القلائص" Hyades، و هو ما منح فرصة مثالية لاختبار فكرة انحراف الضوء، حيث سيحجب الكسوف معظم الضوء الصادر من الشمس بينما موقع عنقود القلائص معروف بشكل جيد. وجد عالم الفيزياء الكونية آرثر إدينجتون Arthur Eddington هنا فرصته. اتخذ إدينجتون و زملاؤه موقعين أحدهما على مسافة من الشاطئ الغربي لإفريقيا (على جزيرة برينسيبي Principe ـ المترجم)، و الآخر في البرازيل، و قاموا بحساب موقع العنقود النجمي الذي يمر ضوؤه بالقرب من الشمس. على الرغم من أن حسابات الفريق العلمي لم تكن مطابقة تماما للحسابات النظرية فقد كانت قريبة بما يكفي لتوقعات آينشتاين لتبرهن على صحتها. تصدرت التجربة الصفحة الأولى للجرائد و أصبح آينشتاين ذا شهرة عالمية بين ليلة و ضحاها.
اختبارات "مفعول عدسة الجاذبية" من هذا النوع، حيث يجعل انحناء الزمكان ضوء أجرام بعيدة ينحرف بفعل الكتلة الكبيرة لجسم ما يتواجد على مسار الضوء، استمرت منذ ذلك الحين، أحدثها في عام 2005، حيث استعمل إدوارد فومالونت Edward Fomalont، من المرصد الوطني لعلم الفلك الراديوي National Radio Astronomy Observatory، و زملاؤه شبكة عالمية من التيليسكوبات الراديوية لحساب انحناء أشعة الراديو بفعل جاذبية الشمس. دقة الحسابات كانت خارقة: فقد أكدت الدراسة مقدار الانحراف المتوقع من طرف نظرية النسبية العامة إلى حدود 0.03%.
الانزياح الأحمر بفعل الجاذبية
الاختبار الثالث الذي اقترحه آينشتاين كان تنبؤاً وضعه لأول مرة سنة 1907، حيث اعتبر أن الطول الموجي للضوء (المقصود هنا هو أي شكل من أشكال الإشعاع الكهرمغناطيسي، بدءا بموجات الراديو ووصولا لأشعة جاما) يمر من خلال مجال جاذبي، سوف ينزاح نحو الجزء الأحمر من الطيف الضوئي، أي سيتعرض لظاهرة الانزياح الأحمر Redshift. لماذا؟ السبب، حسب آينشتاين، هو أن الفوتون يفقد طاقته عندما يتحرك في مجال جاذبي، و هو ما يجعل تردد الموجة (أي عدد المرات الذي تتذبذب بها الموجة الضوئية في الثانية) تنخفض، أي ما يوافق انزياحا نحو الأحمر. ارتفاع التردد في المقابل يعني انزياحا نحو الجهة الزرقاء من الطيف الضوئي أو ما يسمى بالانزياح الأزرق blueshifting.
أول اختبار للانزياح الأحمر بفعل الجاذبية تم سنة 1925، حيث قام والتر آدامز Walter Adams بقياس الإشارة الطيفية من نجم الشعرى اليمانية ب "Sirius B". باعتباره قزما أبيض فإن الشعرى اليمانية ب شديد الكثافة و يمتلك بذلك مجالا جاذبيا قويا. حسابات آدامز توافقت مع التوقعات النظرية للنسبية العامة، و لكن لأن معرفة العلماء عن ذلك النوع من الأجرام كانت محدودة في ذلك الوقت، لم يتمكنوا من استبعاد إمكانية أن يكون الانزياح الأحمر ناتجا عن سبب آخر.
و قد كان علينا انتظار سنة 1959 لكي يتم أول اختبار قطعي للانزياح الأحمر على الأرض نفسها. في تلك السنة قام عالما الفيزياء روبرت باوند Robert Pound و جلين ريبكا Glen Rebka بتجربة غير مألوفة داخل برج مختبر جيفيرسون Jefferson Laboratory بطول 74 قدما (22.5 مترا) بجامعة هارفارد. بالاعتماد على ظاهرة شديدة الحساسية تسمى "مفعول موسباور" Mössbauer effect، استطاعوا حساب مقدار تغير الطول الموجي لحزمة من أشعة جاما أطلقوها نحو أعلى البرج. وقد كان المتوقع نظريا ان انزياح التردد من اسفل البرج الى الجزء الاعلى منه يصل بالكاد الى جزأين من الف تريليون وكان ذلك بالتحديد هو المقدار الذي قاسه العالمان. لقد منحت هذه التجربة إحدى أول الاختبارات عالية الدقة لنظرية النسبية العامة.
في الحلقة القادمة سنتحدث عن إحدى أشهر نتائج نظرية النسبية و هي "تمدد الزمن"، و كيف تم إثبات وجوده فعليا و بالدقة الحسابية المتوقعة من المعادلات التي وضعها آينشتاين.