من هو ابن باجه

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ابن باجه



هو "أبو بكر محمد بن يحيى الصايغ". ولد في مدينة سراقوسا الإسبانية أوائل القرن الثاني عشر. لم تعرف بالضبط سنة ولادته ويغلب الظن أنه ولد عام 1107 أو 1108م ويعرف عند الغرب بإسم Avenpace، توفي ابن باجه مسموماً من قبل أعدائه الذين وصموه بالكفر والإلحاد في مدينة فاس المراكشية، وقد رحل إليها حين كانت الأندلس تمر في مرحلة من الاضطرابات الداخلية والهجمات الإسبانية على معاقل العرب ومدنهم.
كانت أراء "ابن باجه" معادية لآراء الصوفية، أما فلسفته فكانت مبنية على فكرة "الانعزال والانفراد" لأنه كان يعتقد أن الفكر الناشط والتفكير الصحيح لا يأتيان إلا بالانفراد والتأمل والانعزال عن الناس.
خالف "ابن باجه" في أراءه الفلسفية "ابن سينا" و "الفارابي" وحسب رأي ابن باجه إن أراء هذين الفيلسوفين كانت مبنية على أسس الدين وليست مبنية على أصول العلم والمنطق ولهذا فقدت صبغتها العلمية. كان ابن باجه يتحاشى الجدل في الأمور الدينية والجلوس في مجتمعات رجال الدين "وأهل الكلام"، لأنه كان يكره الجدل وخصوصاً في الأمور الدينية لأنه يعتقد أنها أمور تخص الشخص نفسه وإذا سئل عن مشكلة دينية كان جوابه الصمت وعدم الإجابة.
كان "ابن باجه" يعتقد أن العلم التطبيقي علم مفيد للإنسان لأنه يسهل مرافق الحياة للناس وخصوصاً الإكتشافات التي تسهل للناس حياتهم اليومية وبالرغم من انتقاد ابن باجه لفلسفة الفارابي إلا أنه أعجب بكتابه "رسالة في أراء أهل المدينة الفاضلة" لأنه حث على رفض أفكار وانتقادات العامة من الناس وهذا ما يطابق فلسفة ابن باجه، وقد اتخذ ابن باجه مثال الكهف من فلسفة أفلاطون حيث أضاف في فلسفته "إن عامة الناس يعيشون في كهف مظلم لا يرون سوى أشباه المارين أما الكهف. إن مهمة الفيلسوف تستهدف إيضاح الأمور والأشياء على حقيقتها وبيان أشكالها وألوانها المختلفة، وهذه الحقيقة لا يكشفها الفيلسوف إلا بالانزواء والعزلة، لأن العزلة والانفراد يوصلان الإنسان إلى العقل الناشط وبواسطة العقل الناشط يستطيع إيجاد الحقائق كما هي.
قسم ابن باجه التفكير الإنساني إلى قسمين:
الأول: التفكير العادي
وهو الفهم المتساوي بين جميع الناس وهذا يضم تفكير الإنسان في حياته كالحصول على معيشته ولباسه ومعاملته ومسلكه مع الناس.
الثاني: التفكير الناشط
وهو الفكر المبدع وثماره المخلفات الفكرية كالإختراع والتأليف في العلوم والفلسفة والأدب، وهو الفكر الذي يستنبط ويحلل ويبتكر ويؤلف ويكتشف وهذه المخلفات الفكرية باقية لا تموت بموت الإنسان.
وللأسف فإن صاحب هذا النوع من التفكير سيكون عرضه للشك والاضطهاد وسوء المعاملة لأن عامة الناس جهلاء لا يفهمون قيمة العلم والمقدرة الفكرية فيصبح صاحبها عرضة لسوء المعاملة التي تقوده إلى الهلاك. وخير لهذا الإنسان السكوت والصمت وتحاشي المناقشات في الأمور الدينية خاصة الجدل مع عامة الناس.
كان "ابن باجه" شاعراً رقيق الحس وقد ذكر ابن خلدون "في مقدمته" أن أمير المرابطين عين ابن باجه وزيراً في قصره لقدرته العلمية والفلسفية والأدبية، وصدف أن انشد "ابن باجه" شعر أمام الأمير، طرب الأمير له وأشاد بحسن شعره فشكره شكراً جزيلاً، وأمر أنه كلما زار ابن باجه "الأمير" يجب أن يطأ على "ذهب" وذلك جزاء لحسن شعره وعلمه وذكاءه. ولكن "ابن باجه" رأى في قرارة نفسه أن هذا سوف يعود عليه بعواقب وخيمة، عندها طلب من الأمير أن يضع قطعتين من النقود الذهبية في حذائه وهكذا يتم مطلب الأمير دون أن يصرف أموالاً طائلة كلما زار ابن باجه الأمير.
كان "ابن باجه" في أرائه معادياً للصوفية. لأنها فلسفية مبنية على قيمة التفكير الإنساني، أما من الناحية العلمية فقد كان ابن باجه عالماً وطبيباً وفيلسوفاً له قيمته وشهرته العلمية في الأندلس ومراكش. وقد تتلمذ على يده كل من "ابن طفيل" كما لحقه ابن رشد في أول عمره. كانت مآثر "ابن باجه" العلمية والفلسفية لها قيمتها بين العلماء وخصوصاً في الأندلس فقد ترجمت كتبه إلى اللاتينية وعرف عند الغرب باسم Avenpace كما تقدم.
برع "ابن باجه" بعلم الفلك أيضاً وانتقد أعمال بطليموس الفلكية وللأسف لم تصلنا أعماله العلمية وكتبه بالعربية لأنها اندثرت، وكل ما نعلمه عن ابن باجه هو ما جاءنا من الترجمات عن اللاتينية لكتبه وأعماله العلمية والفلسفية والسبب هو نفس السبب الذي حلّ بابن رشد فقد اتهم بالإلحاد واحرقت كتبه عدا القليل منها.
وآخر كتاب كتبه "ابن باجه" هو "تدبير المتوحد" توفي مسموماً لأنه اتهم بالإلحاد. وبحث في كتابه الأخير الفارق بين الإنسان والحيوان حيث قال" لقد خص الله الإنسان بعقل وفكر وذكاء لم تتيسر لباقي الحيوانات وهذه هي هبة من الله للإنسان دون غيره من المخلوقات".
أما فلسفة ابن باجه فقد كانت تدور حول "النظام" وقد عرّف هذه الكلمة فقال: "إن كلمة نظام تعني التناسق في الأعمال الت يلها نهاية موحدة وغاية موحدة". وكلمة نظام لا يمكن تطبيقها على عمل واحد بل على عمليات عديدة تهدف إلى هدف معين. فمثلا أن هناك "نظام عسكرياً" و "نظاماً سياسياً" و "نظاماً اجتماعياً" وهكذا فإن الخالق يدبر نظام الخليقة ونظام الكون حسب إرادته كما يدبر الإنسان نظامه على الأرض حسب احتياجاته.
وقال أيضاً: "إذا كان تفكير الإنسان يدور حول العدالة والإنصاف وحب الخالق وإطاعة وصاياه. هذا الإنسان مثالي ذو نفس عالية وقد منّ عليه الخالق بصفات عالية وضعته فوق باقي المخلوقات. أما إذا كان فكر الإنسان يدور حول شعوره وملذاته في الدنيا وما توفر له هذه الملذات من أطماع وشهوات حيوانية ومن أخلاق عدوانية فإن هذا الإنسان تسيطر عليه أطماعه الحيوانية فيصبح الإنسان في منزلة الحيوان وليس له منزلة الإنسان ذي الأخلاق العالية وهكذا فقد فرق ابن باجه في كتابه "تدبير المتوحد" بين الإنسان ومقدرته العقلية، وبين الحيوان الذي تركزت أطماعه على مطالبه الجسمية وقد تأثر كل من ابن رشد وتوما الأكويني والبرتس ماجنسون ابن ميمون بفلسفة وأراء ابن باجه. وقد ألف ابن ميمون كتابه "دليل الحائرين "الذي بناه على هذا النظام، وكتاب "ابن باجه" الذي أخذ عنه أراء وأفكاراً عديدة وقد أوردها في كتابه المذكور.
قرأ "ابن باجه" كتاب تلميذه ابن طفيل "حي بن يقظان" وقد أعجب به حيث قال: "بعد أن قرأت الكتاب وجدت أن نفس الإنسان تتحد باطنياً مع العقل الناشط" ثم تنتج أفكار وأساليب هي في غاية التناسق والانسجام مع الآراء الحديثة المتبعة بين الناس.
واستطرد يقول "إن القوانين والأسس التي تربط الهيئة الاجتماعية بعضها مع بعض هي مجرد انعكاس للفكر الفعال والعقل الناشط. وهذا العقل هو الذي أوجد هذا النظام الاجتماعي الموجود بيننا. وهذا الفكر الموجود في العقل الناشط هو الذي أوحى إلى "أفلاطون" بأن يكتب كتابه "الجمهورية" لنه تمكن بواسطة العقل الناشط إلى الوصول إلى هيئة مثالية للمجتمع الإنساني شرط أن يكون أفراد المجتمع على مستوى عال من العلم والأخلاق. وأنه من الأفضل للهيئة الاجتماعية أن يكون حكامها وساستها وأولي الأمر فيها من الطبقة المتعلمة المهذبة فإن العدل والعدالة ستكون بين الناس وكذلك حيث الوطن والتضحية في سبيل بقائه ونتيجة هذا قيام كيان ومجتمع مثالي". وقد اجتهد ابن باجه أن يبين في فلسفته الاجتماعية والسياسية أنه باستطاعة الإنسان أن يفهم تطور الهيئة الاجتماعية المثالية اليت هي من نتج العقل الناشط وليس نتيجة العقل المخفي أو المستتر كما أشار إليه ابن طفيل في قصته "حي بن يقطان" ولكن ابن باجه لا ينفي أهميته الإدراك الإنساني وتفكيره الباطني في استنباط الطرق اللازمة لسد حاجته وبقائه سليماً.




وأوضح "ّابن باجه" في كتاباته أن تقد الهيئة الاجتماعية وقدم الإنسان العقلي نتيجة "العقل الناشط" ورغبة الإنسان في التقدم والرقي الاجتماعي وخصوصاً حب البقاء.
شرح "ابن باجه" في كتابه "تدبير المتوحد" فلسفته في السياسة وتطور المجتمع. حيث قال: "إن الإنسان وحده الذي يكيف نفسه وحياته ليصبح عضواً نافعاً في "المدينة الفاضلة أو المدينة المثالية". وأعضاء هذه المدينة قادرون على تطور المجتمع والوصول إلى نظام اجتماعي مثالي دون الالتجاء إلى استعمال القوة أو الانقلاب العسكري. وهذا يرينا أن "ابن باجه" كان يؤمن بالتطور الاجتماعي عن طريق استعمال العقل حتى يتيسر للأمة وللمجتمع الأمن والطمأنينة في حياتهم اليومية.
كان "ابن باجه" من رعيل الفلاسفة العرب في أسبانيا "كإبن مسرة" و "ابن العرابي" وهؤلاء الفلسفة نحوا منحنى جديداً في الفلسفة الإسلامية العربي في الأندلس على خلاف فلسفة "ابن سينا" و "الغزالي" و "الفاربي" اليت كانت تدور حول الفقه الإسلامي وأصوله.